-A +A
محمد خليفة ( جدة )
الصومال بلد لم يعرف الاستقرار طيلة 15 عاماً ، ولم تشفع موارده المحدودة وتعرضه للكوارث الطبيعية والجفاف لوقايته من السقوط في أتون الحروب الأهلية منذ إسقاط نظام الرئيس الصومالي سياد بري عام 1991م ، ورغم أن الحروب الأهلية هي سمة عامة في القارة الأفريقية وتعاني منها ثلث القارة تقريباً ، إلا أن الحرب الأهلية في الصومال تأخذ شكلاً مغايراً ، فهي في الأصل حرب بين دول جوار الصومال وتحديداً بين اثيوبيا واريتريا وكينيا وغيرهم إضافة إلى المصالح الغربية في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم ، بينما لا يوجد سبب قوي واحد على الصعيد الداخلي لنشوء هذه الحرب .
وفي الصومال لا توجد حكومة مركزية ذات قاعدة عريضة منذ عام 1991، وبالرغم من انعقاد 14مؤتمرًا للمصالحة إلا أن جميع هذه المؤتمرات لم تكلل بالنجاح غير مؤتمر جيبوتي الذي تمخضت عنه الحكومة الانتقالية برئاسة عبد القاسم صلاد حسن، حينما اجتمع في جيبوتي أكثر من 2000 شخص توافدوا من جميع مناطق الصومال، وشكل بعد مشاورات استغرقت شهورًا أول حكومة حظت باعتراف العالم، وترأسها عبد القاسم صلاد حسن -الوزير السابق في حكومة سياد برى ، لكن هذه الحكومة ، المدعومة من الأمم المتحدة ، فشلت في بسط سيطرتها على كافة أنحاء الصومال، نتيجة الدعم الاقليمي لأمراء الحرب وقطاع الطرق وزعماء العصابات ، مما أدى إلى انعدام الأمن، وفرار أعداد غفيرة من سكان العاصمة مقديشو من منازلهم ، فيما اختفت المستشفيات العامة، والمدارس وكافة الخدمات ،ومع تردي الأوضاع الأمنية والسياسية وانتشار المجاعة والجفاف في أنحاء الصومال، تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً في هذا البلد عام 1993 تحدوها آمال عريضة بالسيطرة على منطقة القرن الإفريقي بالكامل ومعها مضيق باب المندب. لكن كانت نهاية هذا التدخل الأمريكي عام 1994 شديدة الإذلال ؛ إذ تم قتل العديد من الجنود الأمريكيين في شوارع مقديشو على مرأى ومسمع من عدسات المصورين وكاميرات التلفاز التي بثت هذه الصور المهينة لجميع أنحاء العالم . وعلى الفور وجدت واشنطن نفسها مضطرة لسحب قواتها، وهنا بدأت مجموعة إسلامية تفرض نفسها في العاصمة عبر إقامة المحاكم الإسلامية وبناء المدارس والمستشفيات.

اتحاد المحاكم الإسلامية .. من هو ؟
ظهر “اتحاد المحاكم الإسلامية” الصومالية على واجهة الأحداث بعد أن استطاع فرض سيطرته على معظم مناطق العاصمة الصومالية مقديشو، وقد تم تأسيسه عام 1994 من أجل حماية المحاكم التي تطبق النظام وتعاقب المجرمين والعصابات ، ومن يومها ظل هو الجهة الوحيدة التي تستحوذ على ثقة الصوماليين بعد الخراب الذي حل بالبلاد وسقوط كل المؤسسات الشرعية والرسمية. والاتحاد عبارة عن أجهزة أمنية وقضائية، ساهمت إلى حد كبير في إعادة الأمن إلى أجزاء معتبرة من العاصمة، وبسط السلم، وتعليم الناس، نظراً لقوة تنظيمها، وقبولها شعبياً.
ولأن الدول الإقليمية المجاورة للصومال وفي مقدمتها اثيوبيا لا تريد له الاستقرار خوفاً من أن تصبح دولة ذات شوكة تكون منافسة لها في القرن الأفريقي ، وتطالبها ببعض الأراضي الصومالية التي تحتلها أثيوبيا وخاصة إقليم أوجادين ، قامت من جديد بتأسيس تنظيم مناوئ لاتحاد المحاكم الإسلامية أطلق عليه “التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب” وزعماؤه من أمراء الحرب السابقين ، لكنه حظي بالدعم كذلك من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية نظراً للقلق الذي ساورهم من تحول الصومال إلى بؤرة جديدة لإيواء وتفريغ عناصر القاعدة ، رغم سعي اتحاد المحاكم لطمأنة المجتمع الدولي أنه لا يأوي أية إرهابيين وليست له علاقة بتنظيم القاعدة ، ولا يشكل تهديدا بل هو يريد إحلال النظام والاستقرار في الصومال ، وبعد حروب طاحنة في العاصمة مقديشيو ومناطق متفرقة من جنوب الصومال ، تمكن اتحاد المحاكم الإسلامية من بسط سيطرته مجدداً على كافة أنحاء الصومال و هزيمة التحالف المناوئ ، وغدت مقديشيو للمرة الأولى منزوعة السلاح، وغدا أباطرة الحرب مهزومين عسكرياً ومعنوياً، واختفت لفترة مظاهر الفوضى والاقتتال في مقديشو.


التدخل الإقليمي من جديد
لم يدم الاستقرار طويلاً في الصومال فما بين سيطرة المحاكم الإسلامية على مقاليد الحكم في الصومال بعد هزيمة أمراء الحرب ، وما بين محاولات الحكومة الانتقالية بالعودة إلى السيطرة على الوضع في الصومال حيث لا تسيطر سوى على مدينة بيداوة بالقرب من الحدود الاثيوبية ، حتى وإن كان هذا الأمر سيأتي على ظهر دبابة أجنبية بدأت الأزمة الصومالية في الاشتعال من جديد ، فبعد انتهاء الحرب ضد ما يسمى بـ “ التحالف لإرساء السلم ومكافحة الإرهاب” خرجت المحاكم الإسلامية أكثر قوة وشعبية لدرجة جعلتها أقوى فصيل سياسي على الساحة في مواجهة الحكومة الانتقالية، مما دعا الاخيرة للاستعانة بالحليف الاثيوبي لبسط سيطرتها من جديد على كامل الصومال ، خاصة وأن المحاكم تحظى بالتأييد الشعبي في مقابل تدهور التأييد للحكومة الانتقالية التي لا تزال تضم أمراء الحرب الذين صاروا أشخاصاً غير مرغوب فيهم، كما أن علاقاتهم المشبوهة مع إثيوبيا جعلتها تفقد التأييد الشعبي ، كما أن الحكومة لم تكن قادرة على تلبية رغبات الشعب، فهي حكومة عسكرية لا تضم أحداً من التكنوقراط أو عناصر المجتمع المدني ، فضلاً عن كونها حكومة غير منتخبة، بل كانت نتاج المفاوضات التي دارت في كينيا، والتي كانت تهيمن عليها إثيوبيا، ومن ثم فإنها في نظر بعض المحللين جاءت بعناصر موالية لإثيوبيا وليس للشعب الصومالي ، على عكس المحاكم التي طرحت نفسها كقوى وطنية تسعى لإحلال السلام، وتطبيق النظام في عموم الصومال ، بالإضافة إلى مساهمتها في التخفيف من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للأزمة الصومالية، والإسهام في تحقيق الأمن والاستقرار في المناطق الخاضعة لها لاسيما في شمال مقديشيو ، لذا بدأ فتيل الحرب في الاشتعال من جديد منذ منتصف هذا الشهر ( ديسمبر 2006) بين المحاكم الإسلامية من جهة والحكومة الانتقالية مدعومة بأثيوبيا والدول الغربية من جهة أخرى ، حيث أقرت الأمم المتحدة في تقرير نشرته في اكتوبر الماضي وجود نحو 8 آلاف جندي أثيوبي داخل الأراضي الصومالية يدعمون الحكومة الانتقالية ، ونحو 4000 جندي اريتري يدعمون المحاكم الإسلامية .

الأجندة الاقليمية والدولية في الحرب
يقول البعض بات مؤكداً أن هناك محوراً أثيوبياً غربياً في الأزمة الصومالية يعمل ضد مصالح الصومال والصوماليين، ويسعى في اتجاه التفتيت واحتدام الصراع؛ إذ تساند القوى الغربية الدور الأثيوبي وتدعمه ، ويقولون ان اثيوبيا لديها أهداف وأجندة محددة من الصومال، من بين هذه الأهداف تقسيم الصومال إلى خمسة أقاليم، كل إقليم له سيادته وإدارته الخاصة، والتنازل عن إقليم أوغادين التابع حاليًا لإثيوبيا، وألا تكون هناك حكومة مركزية قوية، أو على الأقل أن يكون على رأس الدولة الصومالية أحد عملائها القريبين لها حتى يتسنى لهم تنفيذ ما يطمعون، إضافة إلى استخدام الموانئ الصومالية في حركة التصدير والاستيراد الأثيوبية، خاصة في ظل إغلاق الموانئ الإريترية في وجه التجارة الأثيوبية، وعلى الطرف الآخر تقف اريتريا داعمة للمحاكم الإسلامية لمنع تزايد النفوذ الاثيوبي في بلد بحجم وأهمية موقع الصومال وهذا السيناريو يردده الكثيرون في الصومال وايضا بعض المحللين المعنيين بالشأن الافريقي . الخروج من المأزق
إن المطلوب الآن هو التدخل العربي سواء من خلال جامعة الدول العربية أو من خلال وساطات عربية أخرى من أجل التوصل إلى صيغة توافقية بين المحاكم الإسلامية والحكومة الانتقالية ، تقوم على أساس إشراك المحاكم الشرعية أو الإسلامية في الحكم إلى جانب الحكومة الانتقالية باعتبارها تحظى بالشرعية الدولية وهذا من شأنه منح الحكومة نفوذ قوي في الشارع بسبب الشعبية التي تحظى بها المحاكم إلى جانب قوتها في فرض النظام والأمن وردع أمراء الحرب ، مع تقديم كل طرف تنازلات بعيداً عن تأثير الأطراف الاقليمية الباحثة فقط عن مصالحها بصرف النظر عن المأساة التي يعيشها لاشعب الصومالي والتي جسدها تقرير صدر أخيراً عن الأمم المتحدة يقول أن هناك نحو‏1,8‏ مليون صومالي معرضين لخطر كبير‏,‏ بينهم‏1,4‏ مليون يعانون من سوء التغذية بشكل متواصل‏,‏ واضطر‏400‏ ألف الى النزوح من ديارهم التي دمرتها الفيضانات أو بسبب الجفاف والمعارك‏.